إسطنبول- بعد مضي نحو 7 أشهر على الانتخابات التركية الرئاسية والنيابية، والتي وصفت بأنها الأصعب في تاريخ وتجربة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه، يجمع الخبراء على أن ملف الاقتصاد كان أهم ملفاتها، فكيف يتفاعل هذا الملف خلال الأشهر الأولى بعد فوز أردغان؟
عانى الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ أواخر العام 2018 من عدة مشاكل، أبرزها عدم استقرار سعر صرف الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية وخاصة الدولار، وما صاحبه من تراجع دراماتيكي في قيمتها.
يؤكد الباحث الاقتصادي التركي أحمد عزيز أوغلو أن الأزمة الاقتصادية ألقت بظلالها على المشهد التركي برمته وليس غريبا أن يعجز الرئيس رجب طيب أردوغان وللمرة الأولى في حياته السياسية من حسم المعركة الانتخابية الشرسة مع منافسه في الجولة الأولى في 14 من مايو/آيار الماضي وما استوجب ذلك من خوض معركة انتخابية أكثر ضراوة ضمن الجولة الثانية في 29 من الشهر ذاته.
ويقول الباحث الاقتصادي في حديثه للجزيرة نت ” صحيح أن الرئيس أردوغان استطاع أن يحسم الانتخابات لصالحه ولكن كان ذلك ضمن وعود كبيرة وجادة لمعالجة الوضع الاقتصادي خصوصا ما يتعلق بمعدلات التضخم العالية التي ألقت بظلالها على كافة نواحي الحياة في تركيا، وأجبرت الحكومة على رفع الحد الأدنى للأجور مرتين في العام نفسه في محاولة لتعزيز قدرة المواطن”.
وحول ذات الفكرة أوضح الكاتب والباحث الاقتصادي إبراهيم قهوجي أن المرحلة الحالية تعتبر مرحلة دفع ثمن الربيع الاقتصادي الكاذب، وأوضح “قبل الانتخابات توقعت مسارين في حال فاز أردوغان، الأول مواصلة العمل بالسياسيات الاقتصادية العبثية تحت مسمى تصفير أو تقليل الفائدة، وبعد عام أو عام ونصف العام بالكثير ينتهي هذا الربيع الكاذب وندخل في صدمة وانهيار اقتصادي كبير، قد ينتج منه 14 مليون عاطل عن العمل”.
وحول المسار الثاني تابع قهوجي للجزيرة نت “يتراجع الحزب الحاكم عن سياسات الاقتصاد العبثي، ويعود للاقتصاد الحقيقي، وهو ما يحدث الآن، وفي هذه الحال سنكون أمام سياسة تقشف”.
وبيّن قهوجي أن هناك خللا في فهم سعر الفائدة، بينما الخطر الكبير والمدمر هو التضخم، أما الفائدة فهي نتيجة لذلك، بمعنى لو كان التضخم 10% مثلا وسعر الفائدة 20% فهنا يمكن القول إن سعر الفائدة فاحش الارتفاع”.
فشل خفض الفائدة
كان البنك المركزي التركي قد أعلن في الشهر الماضي رفع سعر الفائدة ليصل إلى 40% للشهرالسادس لدورة التشديد النقدي. ويأتي هذا الإجراء في وقت ترتفع فيه تحركات الدولة ضد التضخم ولدعم الليرة التي تشهد تراجعا في قيمتها.
وتعليقا على التعامل مع سعر الفائدة قال عزيز أوغلو إن الرئيس التركي اتبع في السنوات السابقة نهجا مختلفا فيما يتعلق بمعالجة أو مجابهة التضخم ولكن نهج -تصفير الفائدة- جلب له الكثير من الانتقادات، ففي الوقت الذي لجأت فيها البنوك المركزية العالمية إلى رفع معدلات الفائدة لديها لمحاربة التضخم تبنى الرئيس التركي نهجا مخالفا، فأصبح يدافع عن مبدأ أن الفائدة سبب والتضخم نتيجة على عكس ما ينادي به ويدافع عنه غالبية الاقتصاديين في تركيا.
وأوضح أن متخذي السياسات النقدية في تركيا لجؤو إلى خفض معدلات الفائدة حيث وصل إلى أقل من 10% لكن التضخم، ونتيجة لعوامل خارجية إضافية، لم يتراجع بالشكل المطلوب ولم يعزز سعر صرف الليرة.
وأضاف للجزيرة نت أن من أسباب ما وصفه إعاقة فعالية السياسات النقدية التركية في خفض سعر الفائدة، عوامل داخلية تتعلق بهيكل الاقتصاد التركي وأهمها العجز الكبير في الميزان التجاري حيث تستورد تركيا أكثر من 95% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج، وكذلك اعتماد الصناعات التركية على المواد الخام المستوردة زاد من العجز، بالإضافة للحالة غير الصحية في الوسط الاقتصادي.
بالإضافة للأسباب السابقة -حسب عزيز أوغلو- فإن الحرب الروسية الأوكرانية تركت أثرا كبيرا في عملية إعاقة فعالية السياسات النقدية التركية، كما أن اتسام المرحلة بعدم الثقة في الاقتصاد التركي بسبب تدخلات الحكومة الواضحة في اختصاصات البنك المركزي لاسيما سياسة سعر الفائدة، أسهم في هروب رؤوس الأموال لاسيما الأموال الساخنة من السوق التركي خاصة في ظل رفع الفيدرالي الأميركي لسعر الفائدة.
كيف قفزت الفائدة
ويرى عزيز أوغلو أن كل ما سبق دفع الفريق الاقتصادي الخاص بالرئيس التركي لعمل مراجعات كبيرة وحادة -وفق تقديره-، وأن الانتخابات التركية – الأخيرة للرئيس- كانت فرصة قوية لتصحيح المسار الاقتصادي.
وأوضح أن الإصلاحات تهدف بشكل أساسي لجلب الاستقرار لسعر الصرف، وخفض التضخم، ولكن وفق نموذج الفريق الجديد -الوزير/محافظ البنك المركزي- الذي له وجهة نظر مختلفة تماما عما كان يتبناه أردوغان فيما يتعلق بسعر الفائدة والتضخم.
وعن شكل الاختلاف قال الباحث الاقتصادي “منذ أقل من 6 أشهر بدأت سياسة الإصلاح عبر الفريق الجديد برفع أسعار الفائدة بقفزات كبيرة”.
إجراءات وتوقعات
وبين الباحث عزيز أوغلو أن الفريق الجديد بقيادة وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك اتبع سياسة تحرير سعر الصرف، وعدم الضغط عليه من خلال أدوات البنك المركزي، فكانت النتيجة ارتفاع سعر الصرف من حدود 18 ليرة إلى 28 ليرة مقابل الدولار في بضعة أشهر.
وأضاف “بالتوازي مع ذلك بدأ البنك المركزي برفع أسعار الفائدة إلى أن وصلت 40% الشهر الماضي، وهذه السياسات ستكون مؤلمة على المدى القصير لكن يتوقع منها أن تؤتي أكلها في المدى المتوسط والبعيد، وهذا يتطلب من المجتمع مزيدا من التحمل والصبر في جوانب جديدة.” وتوقع أن تشهد الفترة القادمة تراجعا كبيرا في حجم الطلب الكلي الداخلي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.
وحول ملاحظات الباحث لآثار السياسيات الأخيرة قال “نلاحظ انخفاضا في أسعار العقارات والسيارات وهذا يرجع بشكل كبيرة إلى لجوء أصحابها إلى بيعها وادخار أثمانها في البنوك لتحقيق عوائد أكبر من أسعار الفائدة”.
ومضى الباحث الاقتصادي في تسجيل ملاحظاته ” بسبب سعر الفائدة سنشهد تراجعا كبيرا في الاقتراض من أجل إقامة مشاريع حقيقية، قد تؤدي إلى تراجع الإنتاج بسبب تراجع الطلب، ومن ثم زيادة معدلات البطالة وهي مشكلة لا تقل خطورة عن مشكلة التضخم ولكنها أمر لا مفر منه”.
وأوضح عزيز أوغلوا أن وزير الخزانة التركي دعا أصحاب المصانع والشركات التركية لبذل جهود كبيرة من أجل فتح أسواق أجنبية لمنتجاتهم في الفترة المقبلة لأنه يتوقع تراجع الطلب المحلي.
وحول جدوى السياسيات المتبعة في الستة أشهر الماضية قال الباحث الاقتصادي “سياسات متوافقة مع النظرية التقليدية الاقتصادية لمواجهة التضخم، لكنها لا تكفي وحدها، ويجب أن تصاحبها إجراءات قوية و إصلاحات هيكلية.
أما قهوجي فتوقع عقب الانتخابات المحلية المزمعة في مارس/آذار المقبل أن يكون هناك رفعا حقيقيا آخر لسعر الفائدة، وبالتالي انعكاسا أكثر لاقتصاد التقشف وسياسة شد الحزام.
وحول أبرز معالم المرحلة المقبلة قال قهوجي “نحن في مرحلة دفع ثمن السياسات الخاطئة، فعلى المدى القريب ستتم إدارة هذا الملف ولكن على المدى البعيد سيصعب ذلك”، مشيرا إلى أنه حينها سينضم للعاطلين عن العمل ما بين 3 إلى 4 ملايين شخص.
المصدر : الجزيرة