يحاول رجال الدين والعسكر التخلي عن مسؤولياتهم بناء على الدعاية الكاذبة
يخوض الشعب الإيراني حالياً حرباً خفية ضد السلطات، هذه الحرب ليست ملموسة لكنها جادة. إنها حرب الإعلام والدعاية.
يسعى نظام الجمهورية الإسلامية من خلال الدعاية إلى التستر على جرائمه في داخل إيران وتقديم صورة غير حقيقية للعالم بخاصة في الغرب. يحاول رجال الدين والعسكر عبر هذه الحرب التخلي عن مسؤولياتهم وتضليل المجتمع الدولي كما يعملون على إيجاد شرخ بين المجتمع الدولي في ما يتعلق بتطورات الوضع في داخل إيران والواقع في البلاد.
سألني صحافي أيرلندي كان عاد من الصين إلى أميركا وكان يتابع الأحداث التي تلت مقتل مهسا أميني “هل صحيح أنه لم يعد بعد وجود لشرطة الأخلاق؟ اطلعت على ذلك من ما ورد في صحيفة أميركية؟”.
قلت له مستغربة “لا. هذا خبر خاطئ تماماً”. ورد على هو الآخر مستغرباً “لم يخطر ببالي أن تقع صحيفة أميركية معروفة في مثل هذا الخطأ”. فسألني ما المصادر التي تنصحي بها لمتابعة اخبار إيران؟ هذا السؤال جعلني أفكر ملياً. قبل ذلك لم أعرف مدى تأثير الدعاية الحكومية للنظام الإيراني في الصحافيين الأجانب.
لكن هذه الأساليب ليست من اختراع الجمهورية الإسلامية، بل إنها ثمرة تجارب الديكتاتوريات الحالية والقديمة مثل الصين الشيوعية وألمانيا النازية وحتى الاتحاد السوفياتي السابق. ومن خلال الخوض في النماذج الحالية والقديمة يمكن تقييم الدعاية التي يقوم بها النظام الإيراني.
الصين الشيوعية والمسلمون الأيغور
تتهم الصين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي ضد الأيغور وبقية المجموعات العرقية المسلمة في سين كيانغ شمال غربي الصين. استطاعت بكين تحويل منطقة سين كيانغ إلى معسكر للأعمال الشاقة وتسعى من خلال تقديم معلومات خاطئة إلى تضليل المجتمعي الدولي بشأن ما يدور في تلك المنطقة وتستمر بانتهاكات كبيرة ضد حقوق الإنسان هناك.
طبقاً لما أورده مجلس العلاقات الخارجية في أميركا أن الصين اعتقلت عام 2017 أكثر من مليون شخص في سين كيانغ بشكل غير قانوني. كما إنها فرضت رقابة على سكان الإقليم وأجرت مضايقات دينية مختلفة، كما أقدمت على عمليات تعقيم في الإقليم لتحديد نسمة السكان. هذه الجرائم ترتكب في إقليم سين كيانغ الذي يقطنه 11 مليوناً من الأيغور.
وكالة “أسوشيتد بيرس” تقدر بأن واحداً من 25 شخصاً من الأيغور معتقل باتهام ارتكاب “جرائم إرهابية”. يوجه نظام الجمهورية الإسلامية مثل هذه الاتهامات إلى المحتجين ويقدمهم على أنهم “إرهابيون”.
تنتج سين كيانغ خمس المنتوج العالمي للقطن. تعتقد التنظيمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان أن غالبية هذا المنتوج ينتجه الأيغور عبر إرغامهم بالقيام بالأعمال الشاقة. وأجرت “بي بي سي” تحقيقاً في ديسمبر 2020 خلصت فيه أن حوالى نصف مليون يرغمون على الأعمال الشاقة في مزارع القطن في سين كيانغ. وهناك مصانع أنشأت في القرب من معسكرات التدريب في الإقليم.
الولايات المتحدة وصفت الإجراءات الصينية في سين كيانغ “بالإبادة الجماعية”. كما أن تقريراً صدر عن الأمم المتحدة في 2022 أكد أن الإجراءات الأخيرة للصين يمكن تصنيفها “جرائم ضد الإنسانية”. الصين ترفض هذه الاتهامات وتتخلى عن مسؤولية ارتكاب مثل هذه الجرائم بسبب عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي.
تعمل الصين لتغطية هذه الجرائم من خلال المؤثرين في شبكات التواصل الاجتماعي والمدونين وتحاول من خلالهم التعتيم في الداخل ومنع تسريب المعلومات الواقعية إلى الخارج. على سبيل المثال ينشر المؤثرون في شبكات التواصل الاجتماعي عن الأيغور صوراً جميلة من سين كيانغ وينشروا محتوى عن السفر والأكل والحياة العامة هناك.
إنهم يذهبون إلى مزارع القطن وينشرون لقطات تظهر السكان هناك وهم يتمتعون بالحرية ويعبرون عن رضاهم للعيش هناك. يقول بعضهم في مقاطع الفيديو هذه “سين كيانغ أصبحت خلال السنوات الماضية أكثر أمناً”. في الواقع تحاول الصين تمرير محتوى شيوعي من خلال المؤثرين في شبكات التواصل الاجتماعي لتقديم صورة غير واقعية عما يجري في سين كيانغ. في الواقع “يوتيوب” محجوب في الصين، والمواطنون الأيغور لا يمكنهم الوصول إلى مثل هذه الفيديوهات. تنتج الصين مثل هذه المقاطع لقلب الحقائق.
الصين تبدي حساسية كبيرة تجاه شبكات التواصل الاجتماعي مثل “يوتيوب” و”تويتر”، مثلما يفعل نظام الجمهورية الإسلامية.
في الواقع تتبع طهران بكين وتسعى إلى عزل الإنترنت في البلاد عن بقية العالم من خلال إجراء رقابة شاملة على المعلومات وتأطيرها لتكون لصالحها أو تقديم معلومات هادفة وملفقة إلى المتلقين. يشجع النظام الإيراني بعض المؤثرين في شبكات التواصل الاجتماعي في الداخل والخارج على نشر فيديوهات حول السفر والسياحة لتقليل بث محتوى عن الوقائع المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
ألمانيا النازية والتلفيق في معسكر “ترزين اشتاد”
مثل الدعاية التي تقوم بها إيران والصين كانت ألمانيا أول من أقدم على إخفاء الجرائم في داخل البلاد.
الأيدولوجية النازية دمجت بين الإقناع والإرعاب والدعاية لتمرير سياساتها على سكان ألمانيا. سعت ماكينة الإعلام في عهد جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازية الألماني إلى ترويج الأيديولوجية النازية في الخارج فضلاً عن تمريرها في الداخل. حاولت ألمانيا النازية القضاء على اليهود والمعارضين السياسيين والغجر والشخصيات الدينية وزجت بكثير منهم إلى معسكرات الأعمال الشاقة وقتل كثير منهم هناك.
الحياة في معسكرات الأعمال الشاقة كانت قاسية للغاية وكان السجناء يمرون بظروف صعبة للعيش والعمل في أماكن مرعبة.
ورد في قاموس هولوكوست “عندما تسربت معلومات حول ما يمر به السجناء إلى خارج المعسكرات. اعترى الخوف الناس وكانوا يخشون الاعتقال. هذا الخوف ساعد النازيين في السيطرة على المجتمع”.
في الواقع يحاول النظام الإيراني من خلال نشر أخبار حول الإجراءات القاسية بحق المعارضين المعتقلين، منهم معتقلو الأحداث الأخيرة، إرسال رسائل ترعب المعارضين مثلما فعلت ألمانيا النازية. من تلك الأخبار ما ورد حول اغتصاب النساء المعتقلات في السجون.
كان هتلر والحزب النازي حاضرين بشكل دائم في حياة الناس. كانوا يسعون إلى السيطرة على المجتمع من خلال إطلاق المسيرات الداعمة لهم واستغلال الإذاعة والرقابة على وسائل الإعلام والفن والبناء والأدب والرياضة والأفلام والموسيقى. إنهم عملوا لتقديم صورة غير واقعية عن ألمانيا.
وكان معسكر “ترزين اشتارد” مثالاً بارزاً لهذه الإجراءات. كان المعسكر يقع في طريق انتقال يهود تشكوسلوفاكيا إلى مراكز القتل والأعمال الشاقة في بولندا وألمانيا وبيلاروس والبلدان الواقعة في البلقان وكانت وقتها تقع تحت احتلال ألمانيا.
سعت الحكومة الألمانية من خلال نشر فيديوهات مفبركة إلى إجراء تعتيم على ما يجري في تلك المعسكرات حتى نهاية الحرب العالمية.
من خلال هذه الفيديوهات استطاعت ألمانيا النازية إقناع الناس بأن اليهود المهجرين ينقلون إلى شرق البلاد. كان من الصعب تصديق أن يعمل النازيون على الزج بكبار السن من اليهود للقيام بالأعمال الشاقة. لكنهم استقلوا “ترزين اشتاد” للتعتيم على القمع الوحشي لليهود هناك، إذ كان النازيون يروجون بأن “ترزين اشتارد” مدينة تحتوي على مياه دافئة وأن كبار السن من اليهود بإمكانهم قضاء فترة التقاعد هناك في أجواء آمنة.
إنهم سمحوا في يونيو 1944 للصليب الأحمر الدولي بإجراء زيارة إلى “ترزين اشتاد” لكن كان ذلك جزءاً من خطة خادعة، إذ نقل النازيون حينذاك كبار السن من اليهود قبل التفتيش إلى معسكرات الموت ليقدموا المكان بأنه “مكان جميل”. وكانوا عملوا على إعادة إعمار المعسكر والقيام برسومات داخل البيوت وزرع الورود. عمل النازيون على تغيير الوقائع وحقيقة ما يجري أمام المفتشين. بعد تلك الزيارة استأنف النازيون قتل اليهود واستمروا حتى أكتوبر 1944.
الدعاية الإيرانية للتعتيم على انتهاكات حقوق الإنسان
في حين يستمر نظام الجمهورية الإسلامية بالقمع الوحشي للمحتجين يسعى إلى تقديم صورة غير واقعية في الداخل والخارج.
في وقت كان النظام يستمر بقمع النساء في إيران بسبب معارضة فرض الحجاب أرسل مجموعة موسيقية ورقص من النساء إلى قطر للترويج بأن النساء في إيران يتمتعن بالحرية. كانوا يعرفون بأن الأنظار متجهة إلى فعاليات كأس العالم لذلك حاولوا استغلال الحدث للدعاية لصالح النظام من خلال تقديم صورة خاطئة عن البلاد والاستمرار في الوقت ذاته بالقمع الخفي في البلاد.
من جانب آخر على رغم أن فيديوهات وصوراً كثيرة نشرت عن الاحتجاجات الشاملة في البلاد ضد النظام لكن الصحافيين الأجانب المقيمين في البلاد أرسلوا صوراً قليلة من الاحتجاجات لأنهم لم يسمحوا لهم بإجراء تغطية حرة عما يجري في البلاد. كما أن المصورين المحترفين لم يبادروا بالتغطية خوفاً من الاعتقال.
على رغم ذلك نشرت صور في الإعلام الخارجي من خلال العبور من فلاتر الرقابة التي يفرضها النظام. على سبيل المثال نشرت صور تظهر النساء في ملاعب كرة القدم للترويج إلى حرية النساء في البلاد في حين يمنع النساء من الحضور في المباريات إلا في أحداث قليلة جداً من أجل كسب رضا “فيفا”. كما الصور التي نشرت عن المسيرات المناصرة للنظام تشكل مثالاً آخر لتلك السياسات الدعائية التي يقوم بها النظام.
على سبيل المثال شهدنا في المسيرات الحكومية بمناسبة يوم القدس وذكرى انتصار الثورة وجود نساء لم يلتزمن بالحجاب وفي الحالات الطبيعية لا يسمح النظام لمثل هذا النوع من الحجاب. كما حاول النظام الترويج بأنه لا يوجد حجاب مفروض في البلاد بل أن الحجاب جزء من الثقافة الإيرانية والقلق الذي يبديه المجتمع الدولي في هذا الإطار يعد نوعاً من “التدخل في الشؤون الداخلية في البلاد”.
هذه الأساليب عملت عليها الصين أيضاً، إذ ترفض انتهاكات حقوق الإنسان وتوجه اتهام التدخل لمن ينتقدها بسبب تلك الانتهاكات.
نظام الجمهورية الإسلامية يحاول حالياً التعتيم على الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان من خلال استغلال التجارب الحالية والقديمة لتقديم صورة خاطئة عن إيران. النظام يتخلى عن تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي الراهن ويركز على الدعاية من خلال تخصيص موارد كبيرة من أجل تلفيق الحقائق والتخلي عن المسؤولية أمام العالم.
من خلال دراسة النموذجين الصيني وألمانيا النازية يمكن أخذ العبر بأن نشر المعلومات والصور من قبل النظام ليس دليلاً على صدقية تلك المنشورات. كما أن وسائل الإعلام الدولية عليها الوصول إلى المعلومة عبر مصادر مستقلة ذات صدقية من أجل إفشال البالونات الكاذبة التي يطلقها النظام الديكتاتوري في الفضاء العام.
عن “اندبندنت فارسية”